مصطفى العقاد |
يقحم اسم "مصطفى العقاد" الذاكرة بالكثير من التداعيات؛ فهو المخرج السوري الذي أنتج فيلمين يذكرهما التاريخ "الرسالة"، و"عمر المختار" اللذين يعدان بمثابة معركة حضارية مليئة بأحاسيس الاعتداد بالنفس وأصالتها، جامعاً بين الأمانة والموضوعية والجمالية المشهدية في رقة وحميمية، إضافة إلى العمق التاريخي.
فالفيلمان لوحتان سينمائيتان تحملان رؤى عميقة ونافذة، ومعالجة راقية قدم خلالهما صورة جيدة جدا و مشرفة للحضارة الإسلامية ونضالات الشعوب، وحفر بهما اسمه في عالم الإخراج والإبداع، أوصلته إللى العالمية بجدارة.
والحالة اليوم معه غدت أكثر إيلاما وفظاعة؛ فحادث مقتله شكل مفارقة مؤلمة وصادمة، فكان بمثابة الفاجعة على الجماهير العربية التي أحبته بما تمتع به من رؤية سينمائية مستمدة من دينه وتراثه؛ فالإرهاب الذي حاربه مدافعًا عن إسلاميتنا وعروبتنا كان هو أحد ضحاياه على يدي جماعة وصف "العقاد" فعلها بأنه "عين الجهل".
نشأته و تغيير فكرته ....
فيلم الرسالة |
وفي حلب ذاتها أصبح مولعاً بالسينمـا بعد أن كان قد اعتاد مـشاهدة الأفلام السيــنــمـائية عند أحد جيرانه، وعندما بلغ سن الثــــامنة عشرة قرر أن يصبح مخرجاً سينمائيــــاً وفي هوليوود تــحديداً.
و كان دائما تدعوه عـــائلته ليحلم على مقـــــاسه و يتنـــازل عن أحــــلامه المبـــالغ فيها .
وأمام تصميمه وإصراره على هوليوود تمكن من تحقيق حلمه رغم فقر حالته المادية، ورفض الفكرة اجتماعاً من محيط أسرته.
وأمام فقر الحال وغداة حصوله على موافقة مبدئية للدراسة في إحدى الجامعات الأمريكية عمل عاماً كاملاً ليوفر ثمن تذكرة سفر، عندها سلمه والده مبلغ 200 دولار أمريكي ومصحفاً شريفاً وودعه متفائلاً.
وهذا مشهد يلقي بعض الضوء على شخص العقاد؛ فأمام ضعف الجانب المادي كان يتمتع بروح إيمانية عالية، وربما هذا ما يفسِّر عدم يأسه من تنفيذ أحلامه التي كانت أشبه بالمستحيلة، فكان قدوة بالمثابرة والعمل والتسلح بالإيمان.
فيلم عمر المختار |
ومن ذلك انطلق منصهراً في داخل عقله وثقافته وقيم الشرق العربي جنباً إلى جنب مع أدوات الإبداع والإنتاج الغربي ليحفر في خبايا الجماهير موغلاً في نفوسها، ومجسداً عبر معاني أعماله التي تستعصي على التعبير المباشر الكثير والكثير من العبر والدلالات.
ويحسب للعقاد فهمه للعقل الأمريكي؛ فعبر سنواته الـ23 التي قضاها هناك تمكن من فك شفرة هذا المجتمع المعقد، وبذلك أحسن مخاطبته عبر الإعلام الذي كان دائم التركيز عليه؛ فقد رآه السلاح الذي يجب أن يخوض به معركته الحضارية مع الغرب.
ورغم وجود عدد من المخرجين العرب في هوليوود فإن اسمه لمع دون غيره عربياً وغربياً، والسر في هذا العقل المبدع يعود إلى محافظته على تراثه وقوميته ودينه، وهذا ما منحه عمقاً خاصاً عن غيره؛ ليقدم عبر أعماله على قلتها تعريفاً بالإسلام والحضارة الإسلامية وكفاحها من أجل البقاء أمام الهجمة الاستعمارية.
عدم توفر الدعم ... يفشل الحلم
ظل العقاد منتظراً لسنوات طويلة إنتاج عمل سينمائي مماثل لفيلمي "الرسالة" و"عمر المختار"، وكان "صلاح الدين الأيوبي" هو العمل الذي طالما إنتظره ونذر نفسه في سبيل إعداده، ورحل محتفظا بسيناريو ورؤية إخراجية للفيلم دون أن يرى النور لعدم توفر الدعم المطلوب.
ويلحظ أن العقاد كان مصراً على هذا الفيلم بالذات، فكان يحمل فكرته أينما رحل أو حل، فقد رأى أن هذا الوقت بالذات هو التوقيت المناسب له، لأن فكرة و سيرة صلاح الدين تناسب الحالة العصرية فى وقتها
وبما أن الفكرة انبثقت من هذا المنطلق فإنها كالعادة تعرضت لمساومات كثيرة في معظم أقطار الوطن العربي بفعل الإسقاطات المعاصرة التي كانت تحملها؛ ونظرا لتشابه الظرف الموضوعي في العالم العربي فهو ذاته الظرف الذي خرج فيه صلاح الدين، وبذلك كان حاله كبقية أحلامه السابقة واللاحقة التي كانت تصطدم بالحكومات العربية التي تطلب أفلاماً تمجدها.
إضافة لحلمه الكبير الذي عاش معه 6 سنوات كان يطمح أن ينتج فيلماً عن "صبيحة الأندلسية" وهي المرأة التي حكمت الأندلس، وفيلماً آخر يروي قصة ملك من ملوك إنجلترا كان قد أرسل في عام 1213م وفدًا إلى الخليفة في الأندلس يطلب منه أن تكون إنجلترا تحت حماية الخليفة المسلم.
وتلك مفارقة أراد المخرج القدير أن يصنع إسقاطاً تاريخياً عبر تعامله معها أمام قلة حيلة أنظمتنا العربية، وانعكاس الحالة كلياً في أيامنا هذه.
رؤية العقاد ..
كان "العقاد" يحمل رؤية مستقبلية أوسع من فكرة إنتاج عمل أو مجموعة أعمال؛ فمن ضمن أحلامه كانت مدينة سينمائية أو مجمع سينمائي للإنتاج بمستوى الإنتاج العالمي، بروح عربية إسلامية بمستويات الرسالة التي تحملها أمته، وكان تصوره عن هذه المدينة أنها مدينة لا تبنى، بل إستوديوهات قابلة للتنقل، فقد كان عازماً على نقل التجربة الأمريكية مثل "يونيفيرسل ستوديو" في هوليوود.
عملان باقيان فى الأذهان
يعتبر فيلما "العقاد" "الرسالة" (1976م)، و"عمر المختار.. أسد الصحراء" (1980م) من أفضل أفلام السيرة الذاتية على مستوى العالم؛ فالأول يعد أضخم وأفضل إنتاج سينمائي يتناول موضوعاً دينياً عن الإسلام في تاريخ السينما ، والثاني يعد أضخم إنتاج عربي يتناول قضية نضال الشعوب وكفاحها ومثابرتها في سبيل تخلصها من الاستعمار.
وبهما تمكن من توصيل رسالتنا الحضارية بشكل عالمي، حيث وصلت أعماله إلى جميع أنحاء العالم مؤكداً للجميع أن إمكانياتها متوفرة، ويمكن حصرها باللغة والتقنية، وبتوفرها بين يديه أتاحت له فرصة لا مثيل لها لمخاطبة الغرب.
ومنذ البداية وبما يحمل من فكر تجاوز المحلية خطط إلى تجاوز المشكلة الكبيرة التي واجهت معظم منتجي الأفلام الدينية السابقين؛ وهي تقديم الفيلم باللغة الأجنبية إضافة للعربية، وليس بطريقة الدبلجة وإنما بطريقة إنتاج الفيلم مرة ثانية بممثلين أجانب.
وما يميز فيلميه الخالدين أنهما ولدا بطريقة قيصرية، ومن خلال مبادرات شخصية، فلم تبادر أي جهة رسمية أو دينية إلى تبني مثل هذين المشروعين، فقد أنجزا بتمويل عربي ليبي وواجها الكثير من الصعوبات والمشاكل.
ففيلم "الرسالة" الذي أنتج بعد أن حرص على الحصول على موافقة من ( الأزهر الشريف ) على سيناريو الفيلم الذي اشترك معه في كتابته الأديبان "توفيق الحكيم"، و"يوسف إدريس"، ومع ذلك ظل الفيلم حتى الآن أسير المحاكم في دول عربية رفضت بثه، في حين قامت وزارة الدفاع الأمريكية بشراء مائة ألف نسخة من "الرسالة" لعرضها على الجنود قبل إرسالهم إلى الحرب في أفغانستان.
وهذا مؤشر بالغ الأهمية إلى القيمة الفعلية التي يكتسبها الفيلم، فهو عمل يشكل مصدراً ليتعرف الآخر الحضاري على الإسلام، وهنا يعد الفيلم وثيقة حية قادرة على نقل صورة الإسلام وحقيقته الحضارية للعالم، وقد كرس فيه العقاد فعلاً عربياً جماعياً عبر الكتابة والتمثيل وحتى التمويل.
ويلحظ أنه كان قد أنجز فيلم "عمر المختار" بعدما بحث عن موضوع يرمز إلى عدم الاستسلام والهزيمة بعد زيارة السادات إلى "الكيان الصهيوني"، وجاء هذا من منطلق عميق آمن به العقاد؛ فالسينما ليست مجرد تعامل مع جماليات يصنعها الضوء، بل هي بمثابة فعل ثوري يحافظ على المجتمع، ويلعب الدور الأكبر من تثبيته على مواقفه ومبادئه وتعزيزها.
العقاد رحل ..
وبرحيله، وهو الممتنع عن اليأس، صاحب العقل التنويري نفقد فرصة فرحتنا بظهور أعمال سينمائية عربية عظيمة على يديه، كما أنه لا تلوح في الأفق فرصة لتكرار إنتاج هذه الأعمال في العالم العربي مرة أخرى لغير سبب، منها القوانين الرقابية المتشددة، وخوف السينمائي العربي الذي يبقى أسيراً لمحددات واهية تقزم دوره.
وبموت العقاد ندرك أن آخر حروف الرسالة التي حملها قد انتهت؛ فالموت، كالعادة، جاء دون استئذان فاعلاً فعل السينما؛
فهي انكسار للقلب وغربة للروح.